من المتعارف عليه في الدراسات الجندريّة عموما أنّ أحد أهم محرّكات التمييز على أساس الجنس في الفضاء العام هو تواصل ذلك الاعتباط الثقافي المتوارث عبر الأجيال والذي يتم وفقه اقتسام الفضاء الاجتماعي بين عالمين: الداخل والخارج، وهو اعتباط تكون وفقه النساء ضمن مكونات عام الداخل (monde du dedans) ويكون وفقه الرجال ضمن مكونات عالم الخارج (monde du dehors) كما تتغذّى منه كل التقسيمات غير الموضوعية للحظوظ الاجتماعية بين الرجال والنساء وتُشرّع عبره مختلف ممارسات العنف والتمييز.
ولأنّ للاعتباطات الثقافية قوة قهرية على الأفراد والمجموعات،ذلك أنها مُتماهية في الغالب مع المؤسسات الاجتماعية الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي يحكمها منطق النظام الأبوي (Patriarcalisme) الذي أنجبها، فإنّها كثيرا ما تتحوّل إلى آليّات فعل ومرجعيات تفكير غير قابلة للتشكيك ولا للنقد ولا للمراجعة، بل إنّنا قد نجد صداها في قرارات الدولة وقوانينها وكذلك فيما قد يفرزه النقاش العمومي من مشاريع حكم وقراءات للواقع وتطلّعات للمستقبل.
بعض هذه الاعتباطات كانت مصدرا لتشريع عدة نصوص قانونية مُعادية للنساء ومتنكّرة لدورهنّ في الحياة الاجتماعية وتواصل إلى اليوم فرض نمط تفكير مُعيّن يبرّر ما يتعرضن له يوميا من عنف ويعطّل، تحت كليشيهاتمختلفة أحيانا من حيث المرجعيات الفكرية والأيديولوجية ولكنها متناغمة مع نمط التفكير الأبوي السائد، كل محاولات الحدّ من التمييز الذي تتعرّض له النساء في الأسرة وفي العمل وفي السياسة وفي كل الفضاءات الاجتماعية المحكومة بمنطق الصراع والهيمنة.
هذا ما يمكن أن نستشفّه من الفصل العاشر الوارد في الأمر الحكومي الخاص بالحجر الصحّي الموجه والذي تمّ وفقه استثناء النساء الحوامل والأمّهات ممن لديهنّ أطفال دون سن الخامسة عشر من قرار رفع الحجر الصحّي الموجه. فلئن كان استثناء النساء الحوامل من العودة إلى العمل مرتبط على ما يبدو بوضعهنّ الصحّي الذي يجعلهنّ أكثر عرضة، ربّما، للمرض مع ما يمكن أن يُضفي على قرار حكومتنا من أبعاد إنسانية وتقدير للنساء، فإنّ استثناء الأمهات من قرار استئناف العمل مرتبط دون شكّ بتمثّل تقليدي لدور النساء في الحياة الاجتماعية عموما مع تفضيل دورهنّ في المنزل أي عالم الداخل باعتبارهنّ أمّهات قبل كل شيء عن دورهنّ في العمل أي عالم الخارج، ذلك العالم الذي لم يكن بعض الرجال ليقبلوا بتواجد النساء فيه لولا أملهم في توسيع دائرة هيمنتهم لتمتدّ إلى خارج مجالاتهم العائلية الضيقة.
ولأنّ منطق الدولة هو منطق أبوي بامتياز تماما كما هو منطق باقي المؤسسات فإنّ المرأة مُنعت، ضمن هذا الفصل، من حقها في اختيار دورها العائلي أي بين استئناف العمل أو رعاية الأبناء وهو نفس الشيء بالنسبة لزوجها المُطالب بموجب نفس القرار بالخروج من الفضاء العائلي واستئناف حياته في الخارج، إذ يبدو أنّ الدولة في حاجة إلى هذا التقسيم النمطي للأدوار حيث تجد فيه ذاتها وتمارس في إطارها سلطتها القائمة أصلا على منطق الهيمنة الذكورية كما حدّثنا بورديو منذ أكثر من عشرين سنة.
لا ندري ان كانت نساء مصنع الكمّامات بالقيروان اللائي رابطن هناك لمدة شهر ونصف ولا نساء القطاع الصحّي اللائي لم ينقطعن عن العمل خلال الحجر الاجباري لهنّ أطفال دون سن الخامسة عشر أم لا، فلا أحد من مسؤولي الدولة أثار هذا الموضوع ولا فكّر فيه حتّى. لا نعرف كيف اهتمّ أزواجهنّ بشؤون أطفالهم ان وُجدوا، بل وكيف تمكنوا من القيام بشؤونهم الخاصة في غياب زوجاتهم، فلا أحد من المسؤولين اهتمّ بذلك ولا أُثيرت المسألة على الاطلاق لأنّ الأمر في النهاية طبيعي جدّا ولا يحتاج إلى كفاءة أنثوية خالصة على نحو ما قد يُحيل له الأمر الحكومي الذي يجعل رعاية الأطفال مسؤولية نسائية صرفة…
قد تجد الحكومة تبريرا لما حدث، ولربّما نضطرّ للقبول بالرواية كيفما ستكون لأن العبرة بالنتائج… بل ها هي تعلن، في سابقة لم تحدث من قبل، اعتزامها اصلاح الخطأ بالرائد الرسمي…
لا نعرف ما سيكون في المستقبل.كل ما نعرفه جيدا، ولا تعرفه الدولة على ما يبدو ولا الحكومات المتعاقبة، هو أنّ مسألة التمييز ضدّ النساء متواصلة وستتواصل برعاية الدولة نفسها لأنّها محكومة بنفس منطق الاعتباطات الثقافية الموروثة التي تحكم سلوك غالبية التونسيين في علاقة بموضوع المساواة… ستواصل النساء تحمل مسؤولية العائلات بمفردهنّ، ستتواصل أيامهنّ طويلة بين العمل والمطبخ والنقل والشارع والسهر على الأبناء واسعاد الزوج وسيعود الرجال إلى المقاهي بمباركة الحكومة وسيظفرون بثلثي الثروة في الأخير وبالجنّة في النهاية.