ما إن انتهيت من قراءة صلصال أمريكي للكاتب ناجي الخشناوي حتى تواترت الأسئلة في خاطري وازدحمت الأفكار في مخيلتي.
هل نحن حقا صلصال أمريكي؟
أو من هو هذا الصلصال حقا ؟
متى سننتهي أن نكون صلصالا أمريكيا إن نحن كنا كذلك ؟
كيف لنا أن لا نكون صلصالا منذ اليوم ؟ وهل فعلا نستطيع؟ هل نملك المقومات التي تسمح لنا أن لا نكون؟
لم يسبق أن ترك كتاب ما هذا الكم من التساؤلات والحيرة في نفسي.
إن استعمال الكاتب ناجي الخشناوي لمفرد “صلصال” قد فاق في اعتقادي الذكاء البشري المتعاهد عليه، بل بلغت عبقرية عنونته للكتاب بهذا العنوان مرتبة متقدمة في استنطاق الواقع وترجمة الهيمنة الأمريكية بأسلوب مبسط يكاد يخاطب البعد الطفولي فينا عندما ترك الصبية تشكل من علب الصلصال ما تراه يترجم اليومي وترسم الصور التي تعترضها يوميا في التلفاز أو الجريدة أو الهاتف النقال. …
هي تنقل انعكاس الصور في مخيلتها دون تشويه ولا رهبة ولا خوف ولا حساب . هي مثل آلة التصوير الفوتوغرافي لا تزيد المشهد ولا تستنقص من مكوناته بل تقدمه بصورة مختزلة لا نقصان فيها ولا تزوير. ..
ربما لأن الكاتب قد توصل هاهنا إلى أن ما يصل له الأطفال بصفاء سرائرهم لا تصل له الألباب المكتملة.
إن المتمعن في معاني الاقصوصة الأولى يجد أن هذا الصلصال لا يعدو أن يكون ذلك الإنسان الخاضع الذي لا يستطيع أن يتحكم في خيوط اللعبة وليس له أن يحدد شروطها، هو فقط مجرد وسيلة وشيئ مجرد من كل آدمية.
هو السلاح للحرب إن أراد الأسياد له ذلك، وجند من الجنود ورقم في السجلات اثناءها وهو اللعبة في أيدي من يتحكم فيها .
إن الصورة الكاريكاتيرية التي رسمها الخشناوي بأن ترك البنت تشكل من الصلصال أسلحة ودبابات وعتاد وذخيرة لا تعدو للوهلة الأولى سوى تسلية لا أبعاد جدية فيها ولا رموز .إلا أن استقراء الواقع كفيل بأن يجعلك تتساءل. هل هي حقا مجرد لعبة اطفال؟ وإن كان الأمر كذلك لماذا لم تشكل البنت عروسا فنقول حينها أننا أمام لحظة “فرويدية ” بسيكولوجية بامتياز؟
ربما أراد الكاتب أن يبين الوجه الآخر للاستعمار وأساليبه المستحدثة.
أو ربما هو يقول هل من جدوى أن تتسابق الدول للتسلح وامتلاك أعتى المدمرات والحال أن ما يتحقق بالكثير من المال أضحى سهل المنال بأرذل الأثمان وأرخص الأسلحة، بل ربما يكون ذلك أشد فتكا ….
فيكفي أن تسيطر على عقول الناشئة وتغير مفاهيم اللعب عندهم فتتغير الأجيال حتى تضمن إنتصارات مستمرة لا مقاومة فيها ،بل سيشرع المهزوم للمنتصر ذلك ويقتنع بحسن النوايا.
إن للصلصال تجليات أخرى أصبحنا نراها و تتهادى علينا وعلى أطفالنا من كل صوب أو حدب، العاب الكترونية لا تكاد تساير نسق تجددها (فري فاير /كندي كراش / …..)
افلام كرتون قطعت مع كل مضامين القيم الكونية واضحت تصدر كل ماهو عنف وتصادم، فترى الأطفال يقلدون أبطالها ويتبنون خطابها دون أن تمتلك القدرة على تقويم اعوجاجهم وتصويب أفكارهم.
إن بساطة المفردات والأسلوب الذي اعتمده الكاتب هو في الاساس غاية التعقيد .فقد استطاع بعبقرية فذة أن يقدم طرحا آخر للدول ذوات النزعة الاستعمارية ويكشف مخططاتها وان يسخر في ذات الآن من الدول الخاضعة عندما قدم شخصية الأب الذي ترك ابنته تشكل مابدى لها على أن تتركه يحتسي ما تيسر له من كؤوس البيرة في هدوء وكأنه -على وعيه بخطورة الموقف- لا ينظر في الأفق أن الإصلاح قادم وان معالم التغيير تضهر ولو في آخر الزقاق.
في الحقيقة لم يكن همي الإجابة عن ذلك الكم الهائل من الأسئلة التي تم طرحها بداية بقدر ماكانت تعبيرا عن حالة الارتباك التي أصابتني حال قراءة الاقصوصة الأولى.
إن الكتاب الذي لا يسيل بحارا من الحبر بعد قراءته ،في اعتقادي، لا يعدو أن يكون كلام مرقون بعناية ينتهي به الأمر في إحدى الرفوف لتنسج العنكبوت بيتها على انقاضه.