يمكنني أن اجازف القول أن إصلاح 1958 قد تاسس في نوع من الاستباق الزمني على إحدى المفاهيم الجوهرية المعاصرة للعلوم السياسية والاقتصادية و التربوية وهو مفهوَم القوة الناعمة. والمقصود بالقوة الناعمة هي الثروة اللامادية اي ثروة الذكاء والمعرفة. يعتبر التعليم إحدى اهم مجالات القوة الناعمة. فهو مجال حيوي ينبغي الاستثمار فيه على المستوى الفردي والمحلي والجهوي والوطني والكوني. فالاستثمار في التعليم هو استثمار في التنمية الناجحة وفي الاقتصاد المادي واللامادي وهو استثمار في التحديث والمساواة والامن وكامل شروط الصحة و الرفاهية ولكن أيضا استثمارا في تحسين التموضع الاستراتيجي للدول وتطوير قدرتها التنافسية العالمية على الاستثمار الخارجي.
إن الاستثمار في التربية هو ما ميز خصوصية المجتمع التونسي مع الدولة الوطنية في أواخر خمسينات القرن الماضي مقارنة ببعض المجتمعات الأخرى. ففي الوقت الذي استثَمرت فيه بعض المجتمعات وخاصة العربية منها في السلاح ووهم الأيديولوحيا استثََمرت تونس في إحدى مجالات القوة الناعمة. لابد من التنبيه ان هذا الاستثمار لم يكن محكوما بمجرد دوافع اقتصادية محضة كما تقاس اليوم في عالم المال و الأعمال وإنما كان مبنيا على وعي عميق بالحركية التاريخية للمجتمع التونسي ولتغيراته العميقة. فالاستثمار في التربية هو استثمار في مسار التحديث و مسار تحرير الفرد. فالمدرسة مطالبة بتحديث المجتمع وتحرير الفرد عن طريق المعرفة. ويتمثل هذا التحرير في تمكين الفرد من تملك أدوات الفكر والسلوك التي تمثل شرط إمكان تحرره الذهني و الاجتماعي والأخلاقي والقيمي.
لا يتعلق الأمر هنا بمجرد اختيار سياسي عرضي يمكن الاقتصاد فيه وإنما يتعلق حسب رايي بفهم عميق للديناميكية التاريخية للمجتمع التونسي التي تتجه نحو تصدع مرجعياته وحقائقه وقيمه مع بداية تموقع الفرد بما هو النواة الاجتماعية الجديدة التي حلت محل العائلة الموسعة والقبيلة. لقد بدأت هذه الحركية التاريخية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فلقد ساهمت ظاهرة النزوح التي عمل الاستعمار الفرنسي على التشجيع عليها لأسباب اقتصادية واجتماعية في تفكك العائلة والقبيلة كنواة اجتماعية طالما اضحى الفرد قادرا على الانفصال عن العائلة التي كانت تَمثل مجالا لهويته وافقا لوجوده و فضاء لتشكل بناه الذهنية و العاطفية. لكانما كانت حدود العائلة هي الحدود الجغرافية والاجتماعية والعاطفية و الذهنية للفرد. أن يتموضع الفرد كنواة للنسيج الاجتماعي يعني في الحقيقة تحولا عميقا في بنية هذا المجتمع من مجتمع هوليستبكي تكون فيه الذات منصهرة كليا في نسيج قبلي وعائلي سابق عنها الي مجتمع ذواتي يمثل فيه الفرد مبدأ انتولوجيا واكسيولوجيا و اجتماعيا. إن هذا التحول في طبيعة المجتمع وفي مكوناته المرجعية يعني أيضا تحولا من مجتمع السكون والثبات والتجانس والهو هو والتراتب والتفاضل الي مجتمع الحركة والتعدد والاختلاف والمساواة والعدالة الأخلاقي. يتحول المجتمع بمقتضي ذلك الي فصاء للعيش المشترك على قاعدة التفاعل التواصلي l’agir communicationel ويتحول الفرد إلى آخر في تساو ايتيقي مع كل الأفراد لا مجال فيه لأي نوع من انواع التفرقة او التفاضل القائم على اساس النوع او العرق او الجهة او الانتماء بكل أشكاله.