هي فلسفة جديدة بدأت تأخذ حظّها في النقاش العمومي الفلسفي العالمي رأيت أنّها يمكن أن تساهم في حلّ أزمتنا المعقّدة.
ليس ثمّة شك أنّ التمظهر العادي للتضامن جاء من خلال الفعل الأخلاقي والإيمان الديني فهو قبل كلّ شيء قيمة أخلاقيّة ومعيشيّة تربط الأنا بالآخر برباط المساعدة والمناصرة والتآزر والتعاون والتأييد والاتفاق والإتحاد، وكلّها معان مترادفة تنمّ عن أشكال متعدّدة قد تتخذها قيمة التضامن حسب الظروف والمعطيات. وقد اعتمدت الأديان في مقارباتها للعلاقات بين الأفراد هذه القيمة، فالإسلام مثلا قد قنّنها وجعلها ركنا من أركانه على منوال الزكاة والصدقات. وإذا أردنا التعمّق في التضامن الديني فإننا نلحظ أنّه يخصّ المؤمنين أساسا ويأخذ شكل الأخوّة. فالحديث “أنصر أخاك ظالما أومظلوما” يفيد العصمة والعصبيّة رغم التفسيرات التي تؤوّل نصرة الظالم بنصحه وإعانته على الكفّ عن الظلم.
وفي الواقع المقاربة الدينيّة العقديّة بصفة عامة هي موقف اختزالي هووي لا يقبل الاختلاف ولا التنوّع، ولا يحتمل الغيريّة. فهي لا تعمل على إثبات التّفكير بما هو تعبير عن الوجود معا، بل تقوم بإعادة تنظيم العالم المحيط، عبر أساليب مركّبة من المماثلة على صنفين على منوال تصنبف كارل شميدت بين الصّديق والعدوّ، أي أنّ “العضويّة الوجوديّة” هي التي تحدّد قيمة التضامن. لذلك وكما أكّدت ذلك مرارا ينبغي على كلّ تجمّع تضامني سواء سمّي مجتمعاً أو جماعة دينيّة، أو سياسية أو حتى أقليّة قوميّة، أن ينفتح على الحقوق والحرّيات العامّة، وأن يؤسّس تضامنه لا على الإمّعية الهوويّة، وإنّما على الحرّيات الفرديّة والعامّة فالهوويّة يوتوبيا إقصائيّة لا تنتج سوى العنف والحرب والإبادة والتّطهير العرقي. (والملاحظ أنّ الإمّعيةL’ensemblisme اشتقاق من إِمَّع: (اسم)، مُقلِّد في الدِّين. لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً، ويقال رجل مَّعٌ أَو إِمَّعَةٌ: َيُوافِقُ كُلَّ واحِدٍ على رَأْيِهِ وَتُزادُ التَّاءُ فيهِ لِلْمُبالَغَةِ اُغْدُ عالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً وَلا تَكُنْ إِمَّعَةً. الإمَّعُ : الذي يقول لكل أحد: أنا مَعك، ولا يثبت على شيء، لضعف رأيِه. وقد اهْتَمَّتْ رِسَالَةُ الْإِسْلَامِ بِتَخْلِيصِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ وَنَادَتْ بِتَحْرِيرِ الْعَقْلِ مِنْ قُيُودِ الْجَهْلِ وَالتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِمَّعَةً. مِنْ هَذَا الْمَفْهُومِ يَأْتِي أَمْرُ الرَّسُولِ ـ الَّذِي يَرْفُضُ فِيهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ الْإِنْسَانُ إِلَى إِمَّعَةٍ.)
وفي قناعتي كان للتحوّل المفهومي العميق لهذه القيمة الأخلاقيّة الدينيّة والذي ظهر في منتصف القرن الماضي بعد انهيار العالم الاشتراكي الشيوعي أثّر في نمط استعماله على المستوى المعيشي العام. نعم لم يعد التضامن قيمة أخلاقيّة ودينيّة فقط ولم يتحدّد فهمه بالأخوّة والقرابة بل أخذ صبغة إنسانيّة وأصبح ركنا أساسيا من منظومة حقوق الإنسان وتحوّل إلى نظريّة فلسفيّة سياسية واجتماعيّة دافعت عنها وطوّرتها مجموعة هامة من الفلاسفة على غرار جوناس وهابرماس ورورتي وبول ريكور وغيرهم. فالتضامنيّة نظريّة جديدة هي سياسية واقتصاديّة وثقّافيّة في الآن تقوم على محورين أساسيين فلسفة الإنسان الفرد وفلسفة العيش المشترك.
ودون إغراق أكاديمي نذكّر بأن بروز الفرد في الغرب أساسا مستقلا ومتحرّرا عن مراتيج تيولوجيّة غيبية كبرى وثقيلة وعن أنساق سياسيّة استبداديّة جعلته يسترجع حرّياته ليصبح فاعلا أساسيا في نمط العيش ولكن وفي الآن نفسه انحلت روابطه الحميميّة بالمجتمع فأصبح أكثر انزواء مع الثورة الرقميّة فكان لا بدّ من نظريّة تضامنيّة تعيد إليه إنسانيّته بواسطة معطيات العيش المشترك. وتفاديا للانزوائية الهيكليّة للفردانيّة المعاصرة و تجنّبا لغطرسة المجموعة وهيمنة الأنساق تقوم هذه الفلسفة التضامنيّة باقتراح عقد اجتماعيّ مواطني جديدا.